حين يسبق المؤثر القرار… قراءة سيكولوجية لأزمة الثقة في التربية والتكوين


 

في زمن أصبحت فيه الأخبار تسابق القرارات، لم يعد غريبا أن يخرج مؤثر على مواقع التواصل الاجتماعي ليخبرنا عما ستقرره الحكومة قبل أن تجتمع، أو ليحلل قضايا التربية والتكوين وكأنه خبير متخصص في السياسات التعليمية. والأغرب أن تجد آلاف الشباب يصدقونه دون تردد، وكأن الشهادة الجامعية أو التجربة المهنية لم تعد شرطا للحديث باسم "المعرفة".

من منظور سيكولوجي، يمكن فهم هذا الانجذاب نحو المؤثرين في إطار ما يسمى بسيكولوجية الجماهير إلى البحث عن أصوات تبدو قريبة منهم في الأسلوب واللغة، حتى وإن كانت تفتقر إلى الكفاءة العلمية. هنا يعمل التأثير الكاريزماتي للمؤثر على تنشيط آليات الثقة العاطفية أكثر من الثقة العقلانية.

يشير الدكتور محمد الدرويش، رئيس المرصد الوطني للتربية والتكوين، في حواره على قناة تيلي ماروك بتاريخ 1 يناير 2024 إلى هذه الظاهرة التي تتسع يوما بعد يوم: مؤثرون يتصدرون النقاشات، يحللون، يقررون، ويوجهون أحيانا في الاتجاه الخاطئ، بينما يزداد اعتماد فئة من الشباب عليهم كمصدر أساسي للمعلومة.

هذه الظاهرة ليست معزولة عن سياق أوسع؛ فقد أصبحت المنصات الرقمية فضاء مفتوحا للجميع، حيث يمكن لأي شخص، بغض النظر عن تكوينه الأكاديمي أو خبرته، أن يقدم نفسه كـ"خبير" في القانون أو التشريع أو السياسة التعليمية. في المقابل، نجد فئة من الشباب تمنح ثقتها الكاملة لهؤلاء المؤثرين، أحيانا بدافع القرب الأسلوبي أو الخطاب البسيط، وأحيانا بسبب الانحياز التأكيدي، أي الميل إلى تصديق من يقول ما نود سماعه.

لكن الخطر هنا مزدوج: من جهة، إمكانية تضليل الرأي العام بسبب نقص الدقة أو غياب المعطيات الحقيقية، ومن جهة أخرى إضعاف النقاش الجاد والمسؤول حول قضايا التعليم والتكوين التي هي رهان استراتيجي لمستقبل البلاد. سيكولوجيا، هذه المخاطر تتعزز حين يغيب التفكير النقدي ويحل محله التفكير الجمعي، حيث ينساق الأفراد وراء آراء جماعية دون فحص منطقي.

يدعو الدكتور الدرويش النقابات والأحزاب والمجتمع المدني إلى استخلاص الدروس من هذه الظاهرة، والعمل على إعادة بناء جسور الثقة بين مكونات المجتمع. ومن منظور نفسي، فإن إعادة هذه الثقة تتطلب ليس فقط أخلاقا وصدقا ومصداقية، بل أيضا إشباع الحاجة الإنسانية إلى الأمان النفسي، حيث يشعر المواطن أن المعلومة التي يتلقاها تأتي من مصدر مسؤول وشفاف، قادر على تحمل تبعات كلامه وأفعاله.

شروط الثقة التي أشار إليها الدكتور الدرويش – الأخلاق، الصدق، التضحيات الملموسة – تتوافق مع مبادئ العلاج بالتحالف العلاجي في علم النفس، حيث يقوم التغيير الإيجابي على علاقة قائمة على الصدق والاحترام المتبادل وإظهار الالتزام العملي، لا الوعود المجردة.

إن مواجهة هذه الموجة من "الخبراء الافتراضيين" تتحقق عبر التواصل الفعال والشفاف، وتزويد المواطنين بالمعلومة الدقيقة في وقتها، مع تبسيطها بما يلائم مستويات الفهم المختلفة. كما أن التربية الإعلامية والنفسية أصبحت ضرورة ملحّة في المدارس والجامعات، لتدريب الشباب على مهارات التفكير النقدي والوعي بالانحيازات النفسية التي قد تجعلهم عرضة للتأثير غير الموثوق.

في النهاية، من منظور علم النفس الاجتماعي، لا يمكن استعادة الثقة إلا حين تلتقي المصداقية المعرفية مع المصداقية العاطفية؛ أي حين تكون الكلمة الرسمية دقيقة ومدعومة بالأدلة، وفي الوقت نفسه إنسانية وقريبة من وجدان المواطن. عندها فقط، يمكن أن يتحول النقاش العمومي من فوضى التأويلات إلى فضاء صحي لبناء مستقبل التربية والتكوين 


 للاطلاع على الحوار الكامل مع الدكتور محمد الدرويش على قناة تيلي ماروك بتاريخ 1 يناير 2024، يمكنكم مشاهدة الفيديو عبر الرابط التالي 👇
: