شكل رحيل الفنانة أسمهان سنة 1944 واحدة من أكثر اللحظات غموضا في تاريخ الفن العربي الحديث. فبينما كانت في أوج عطائها الفني، رحلت في حادث مأساوي لا يزال إلى اليوم يثير تساؤلات، ويفتح باب التأويل بين رواية رسمية ثابتة، وحكايات متداولة غذتها الظروف السياسية، وشهرتها الاستثنائية، وحياتها القصيرة والمكثفة.
فما الذي تقوله الوقائع عن موت أسمهان؟ وما حدود ما يمكن اعتباره حقيقة تاريخية؟ وكيف نظر شقيقها الفنان الكبير فريد الأطرش قيد حياته إلى هذا الرحيل؟
أولا: الرواية الرسمية لوفاة أسمهان
وفق المعطيات المتداولة تاريخيا، توفيت أسمهان إثر حادث سير أثناء توجهها من القاهرة إلى رأس البر، حيث انحرفت السيارة التي كانت تقلها وسقطت في إحدى الترع، ما أدى إلى غرقها، في حين نجا السائق.
هذه الرواية تم اعتمادها رسميا، ولم يصدر في حينه ما يثبت قانونيا أو قضائيا خلاف ذلك. وقد تم تشييع الفنانة في جنازة مهيبة عكست مكانتها الفنية والاجتماعية.
ثانيا: القصص والروايات المتداولة
رغم وضوح الرواية الرسمية، فإن موت أسمهان لم يخل من القصص والافتراضات، التي انتشرت لاحقا في الصحافة والذاكرة الشعبية، ومن بينها:
فرضيات تتحدث عن تدبير الحادث،
ربط وفاتها بسياقات سياسية معقدة خلال فترة الحرب العالمية الثانية،
أو اعتبارها ضحية صراعات أكبر من عالم الفن.
غير أن هذه الروايات، على اختلافها، تفتقر إلى أدلة قاطعة، وتندرج في أغلبها ضمن ما يمكن تسميته بـ أسطرة الموت الفني، حيث يتحول رحيل الفنان المفاجئ إلى مادة خصبة للتأويل والخيال.
ثالثا: لماذا كثرت الأسئلة حول موت أسمهان؟
تعود كثافة الشكوك إلى عدة عوامل متداخلة:
قصر حياتها الفنية وتألقها السريع،
شخصيتها القوية والمتمردة قياسا بسياقها الاجتماعي،
الظرف السياسي الحساس الذي عاشت فيه،
وكونها امرأة كسرت صورا نمطية في الفن والحياة.
هذه العناصر مجتمعة جعلت موتها يبدو، في المخيال العام، أكبر من مجرد حادث عرضي.
رابعا: موقف وتصريحات فريد الأطرش
أما شقيقها الراحل فريد الأطرش، فقد ظل طوال حياته يتعامل مع وفاة أسمهان بألم إنساني عميق أكثر من كونه موقفا جدليا.
في تصريحاته المتفرقة، كان فريد يؤكد حزنه الدائم لفقدان شقيقته، ويشير إلى أن الحديث المتكرر عن ملابسات موتها لم يكن يخفف عنه، بل يعيد فتح جرح لم يندمل.
وقد عرف عنه تجنّبه الخوض في نظريات الاتهام أو التشكيك، مفضّلا أن تبقى أسمهان في ذاكرة الناس صوتا فريدا لا حادثة غامضة.
في الختام، يبقى موت أسمهان حدثا مفتوحا على التأويل، لا بسبب نقص الوقائع الرسمية، بل بسبب المكانة الرمزية التي احتلتها في الوجدان الفني العربي. فبين حقيقة تاريخية تقول إنها حادث مأساوي، وذاكرة جماعية تميل إلى الأسطورة، تضيع الحدود أحيانا بين ما حدث فعلا وما نحب أن نرويه.
غير أن الثابت، بعيدا عن كل الجدل، هو أن أسمهان لم تمت في أغنية ناقصة أو مشروع غير مكتمل، بل رحلت وقد تركت أثرا فنيا ما زال حاضرا، وأن شقيقها فريد الأطرش ظل طوال حياته شاهدا حزينا على أن الفن الحقيقي يبقى، حتى حين يرحل أصحابه مبكرا.
تنبيه: هذا المقال ذو طابع ثقافي تحليلي، ويعتمد على معطيات تاريخية متداولة، دون ادعاء الجزم أو تبني أي رواية غير مثبتة رسميا.
13 دجنبر 2025
عليك صلاة الله وسلامه👇
