- في الحقبة المعاصرة ظهر علم النفس الإكلينيكي نتيجة تراكمات فلسفية ، ولولا هذا التراكم لما ظهر هذا التخصص ، ذلك أن النزعة الفردانية كانت متأصلة في الدراسات الفلسفية منذ القدم وعلى مر العصور.
- إن اهتمام الفلسفة بالفرد و الفردانية كانت من بين المقدمات الفكرية و المعرفية لعلم النفس الإكلينيكي.
إد أن الفلسفة تدرس ماهية الإنسان من حيث وجوده و ثقافته و فكره و انفعاله وتفاعله و هويته ...إلخ ، وقبل تسليط الضوء على الأصل الأنثروبولوجي لعلم النفس الإكلينيكي لابد من طرح السؤال التالي :
- ماذا تعني الانثروبولوجيا ؟ إنها علم يدرس ثقافة الشعوب ، ذلك أن الفرد رغم خصوصيته على مستوى الذات و التفكير و الوعي إلا أنه (الفرد) يعيش مع مجموعة من الأفراد أي مع الجماعة التي تمثل جنسا ثقافيا موحدا ومتنوعا ، و بالتالي لا يمكن القيام بمقابلة اكلينيكية مع هذا الفرد في ظل غياب المعرفة الثقافية بالمفحوص ، فقد أكدت العديد من الدراسات أن سيكولوجية الفرد أكثر حساسية للأصل العرقي ، و من هنا يمكن طرح السؤال التالي : كيف يمكن للأخصائي النفسي أن يقوم بتشخيص حالة الفرد دون الإطلاع على تاريخ ثقافته و لغته؟ أي دون الإلمام بثقافة و لغة هذا الفرد (المفحوص).
إن الأخصائي النفسي الغربي الذي يسقط ثقافته الغربية على المجتمع الغريب عنه لا يمكن أن تكون مقابلته الاكلينيكية ناجحة بأي شكل من الأشكال دون معرفة دقيقة بحضارة و لغة وتقاليد وعادات الفرد المفحوص خصوصا إذا كان هذا الأخير ينتمي إلى دائرة العالم الإسلامي .
صحيح أن الأخصائي النفسي يعتمد الموضوعية كما رأينا في السابق حيث يتبنى الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية DSM 5 التي نشرته الجمعية الأمريكية للطب النفسي، و لكن هل يكفي هذا الدليل رغم أهميته في ظل غياب ما هو ثقافي؟ فالجواب هنا واضح ، حيث لا يمكن ذلك ، لأن الجانب الثقافي يعطينا فكرة على خصوصية عادات المفحوص التي تساعد الأخصائي النفسي في فهم جيد للغة الفرد النابعة من ثقافته.
- إن الأنثروبولوجيا تضع من بين أولوياتها ثقافة الشعوب بوجه عام و ثقافة الفرد بوجه خاص، هذه الثقافة يحتاجها الأخصائي النفسي لفهم الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الفرد ، كون هذا الأخير يتوفر على بعدين و هما:
البعد المادي الذي يتلخص في الإنتاجات المادية، و البعد اللامادي الذي يتلخص في كل ما هو ثقافي و لغوي و رمزي.
* كيف ينتج الإنسان المعنى من خلال المنظور التحليل النفسي؟
بعدما أشار الأستاذ عبد المجيد ايت رحو إلى الأسس الفلسفية و الأنثروبولوجية لعلم النفس الإكلينيكي، يمكن الآن طرح السؤال التالي: كيف ينتج الإنسان المعنى في ظل تصور التحليل النفسي؟
عندما نسلط الضوء على التحليل النفسي ، يتبادر إلى أذهاننا اسم الطبيب النمساوي سيغموند فرويد الذي يقول أن الإنسان ينتج المعنى عن طريق اللاشعور، و عن طريق السلوكات اللاإرادية ، وكما هو معلوم سابقا أن الفلسفة العقلانية ل رينيه ديكارت تنطلق من كون [الإنسان ينتج المعنى انطلاقا من العقل ] أي من الجانب الواعي ، إلا أن فرويد يرى عكس ذلك ، حيث يعتقد هذا الأخير أن الإنسان ينتج المعنى من خلال اللاشعور كونه يمثل مساحة أكبر مقارنة بالوعي ، والمعنى يظهر عندما ينتقل المكبوت من اللاشعور ويصبح واعيا ، أي عندما يبادر الفرد بالتفريغ عن طريق التنويم المغناطيسي أو التداعي الحر .
المعنى في بعده الجماعي، و المعنى في بعده غير الجماعي.
وإنتاج المعنى كخصوصية بشرية له بعدين ، البعد الفردي والجماعي ، ذلك أن الفرد ينتمي إلى ثقافة معينة وإلى مجتمع معين ، وبالتالي فهو ينتج معنى مشترك مع الأفراد.
والمعنى في بعده الفردي يقصد به تلك الإنتاجات الشخصية والفردية التي يستقل بها الفرد عن الجماعة، و بمعنى آخر ما نسميه ب العلاقات بينفردية (العلاقات بين الفرد وذاته)، كون الفرد ينتج معنى بعلاقته مع ذاته (بينذاتية) وليس مع الآخر ، كما أن الإنسان ينتج المعنى عن طريق التواصل (الكلام) ، ذلك أن الكلام هو الطريقة التي يعبر من خلالها عن عالمه الداخلي الذي يتلخص في رغباته ونزواته ، و كذلك عن مكبوتاته الداخلية ، ذلك أن المعنى في التحليل النفسي فهو كل ما يختزله الفرد في ذاته سواء كان معنى فرديا أو جماعيا ، و يتلخص المعنى في الاضطرابات و العقد النفسية التي يتم التعبير عنها عن طريق التواصل بطريقة غير لا شعورية.
- تحليل ظاهرة الجنون تاريخيا وثقافيا:
في إطار الحديث عن علم النفس الإكلينيكي ، لا بد من الإشارة إلى أنه عبر مراحل التاريخ كانت هناك ظواهر مرضية قبل ظهور علم النفس الإكلينيكي ، و في هذا الصدد يمكن طرح السؤال التالي : هل الظواهر المرضية كانت موجودة ومتجذرة في التاريخ ؟
- من البديهي أن نقر بوجود تاريخي قديم للظواهر المرضية مثل الحمق و الجنون ، و لهذا الغرض جاء علم النفس الإكلينيكي ليفسر هذه الظواهر المرضية تفسيرا علميا و ليس ميتافزيقيا أو إيديولوجيا ، فالظواهر النفسية والأمراض العقلية كانت موجودة منذ القدم ، كالجنون الذي يعد حالة ذهانية ،فهو ليس اضطرابا عصابيا ، و إنما هو مرض عقلي.
- الجنون هو مكون مأساوي لكون المجنون أو الأحمق يعيش حالة مأساوية و متأزمة يفقد من خلالها التحكم في ذاته و فكره و مصيره ، و يفتقر إلى آلية الدفاع و ما يسمى باللغة الفرنسية Mécanisme de défense إد يفقد الصلة بالواقع و التحكم في ذاته ، و هذه الوضعية المأساوية التي يعيشها عليها المجنون تدفع الناس إلى الهروب و الابتعاد عنه ، هذا ما يقع عند رؤية مجنون في الشارع ، فالإنسان دائما يحاول الابتعاد عنه خشية أن يتعرض للأذى و ما شابه ذلك.
- المجنون ليس فقط مأساوي بل يخالف و يتمرد على كل شيء طبيعي أو اجتماعي معتاد ، إنه يتصرف خارج إرادته و لا يستطيع أن يتحكم في سلوكه، و بمعنى آخر إنه (المجنون) يتمرد على كل ما هو سائد داخل النظام الاجتماعي.
- المجنون يتميز بسلوك غريب و غير مفهوم مع غياب كل ما هو عقلاني ، وهذه التصرفات غير الطبيعية من خاصية من خصائص المجنون عبر التاريخ.
- هناك مكون مفاده أن الأفراد الذين يشاهدون المجنون غالبا ما يتجنبون المعاملة معه خوفا من تصرفاته الغريبة ، يعني ذلك أن الجنون عبر التاريخ كان مرفوضا وغير مرغوب فيه.
و بما أن المجنون مهمش و يتميز بصفة الحمق ، فالناس يتهربون منه باعتباره متمردا على نفسه وعلى المجتمع، و لهذه الأسباب يتم وضع المجانين في أماكن معزولة .
و هذا ما كان سائدا منذ القدم في الحضارة الإغريقية و في العصور الوسطى، حيث كان ينظر إلى المجانين على أن الأرواح الشيطانية هي التي تتحكم في تصرفاتهم وسلوكهم.
- تاريخ الجنون كان سوداويا تجاه المجانين ، حيث ظل العزل موجوداً بسبب تصرفاتهم الخرقاء ، إلا أن هذا التاريخ لم يعترف بوجودهم الإنساني.
* العلامات السريرية للعصاب:
في حديث الأستاذ عن العلامات السريرية للعصاب ، أشار إلى مجموعة من هذه العلامات وقد ذكر من بينها ما يلي:
* الصعوبات العلائقية التي تعني أن الشخص العصابي لديه هشاشة و حساسية كبيرة بعلاقته مع الآخر ، فهذه الحساسية تجعل الآخر يجد صعوبة في التعايش معه ، بمعنى أن هذا العصابي يعيش في صراع دائم مع محيطه الذي يصفه بالمزاجي، و بالتالي فالصعوبات العلائقية لدى الشخص العصابي تؤدي به إلى توظيف السلوك العدواني تجاه الآخر عن طريق الاستفزاز أو الإغراء ، كما يمكن للشخص العصابي الذي يعاني من الصعوبات العلائقية أن يختار اللامبالاة أو الانسحاب أو التردد ، و نجد هذا السلوك في مواقف المنافسة ، فعندما ينهزم في المنافسة يقوم بالانسحاب و إن دل هذا على شيء إنما يدل على أن الشخص العصابي يعاني من مشاكل ، حيث لا يستطيع أن يجد حلا أو مخرجا لها.
و بالنسبة ل [السلوكات غير المتوقعة] فغالبا ما يفاجئك الشخص العصابي بسلوك غير متوقع و صادم.
أما فيما يخص [تطور أعراض معينة] ، فإن الشخص العصابي لديه مجموعة من الأعراض التي تميزه كالقلق والتوتر و المزاج المتقلب المفرط و التردد في اتخاذ القرار و التذبذب الفكري و عدم الثقة في النفس وضعف تقدير الذات ...إلخ
و فيما يتعلق ب [الشعور الذاتي بالألم] ، لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نتجاهل بأن الشخص العصابي يعاني داخليا وغير مرتاح ، و لديه شعور بالألم و يحاول إخفاء آلامه نظرا لأن العالم الخارجي لا يمكن أن يرحمه بل يشفق عليه ، و لا يريد أن يشارك ألمه مع الآخرين.
ويعد [ الصراع النفسي الداخلي] من أبرز العلامات السريرية للشخص العصابي ، حيث يعاني المفحوص من التشرذم النفسي كونه يتميز بشخصية هشة ، و هذا ما يجعله يستعمل آليات الدفاع بقوة.
وفيما يتعلق ب [الوعي بالصعوبات الجنسية] ، فغالبا ما يعاني الشخص العصابي من اضطرابات جنسية كالشدود الجنسي أو البرود الجنسي (تثبيط الرغبة الجنسية )، إلا أنه يحقق رغباته الجنسية بشكل خيالي.
* كيف يتم تشخيص الحالة العصابية للفرد؟
- يمكن القول أن تشخيص الحالة العصابية لا يتم إلا عن طريق المقابلة الإكلينيكية أو ما يسمى بالحصص الإكلينيكية التي من خلالها يستطيع المعالج النفسي أن يشخص حالة العصابي بالتركيز على مجموعة من العناصر، و من بينها المشاكل المتكررة و السلوكات غير المنتظمة و التعبير غير المنسجم ، ووجود أعراض جسدية أو أعراض نفسية غير مكشوفة ، حيث لا يمكن للشخص العصابي أن يتجاهل أو يتجاوز هذه الأعراض الجسدية و النفسية، فهكذا يتم التشخيص، إلا أن هناك أعراض كثيرة تظهر أحيانا وتختفي أحيانا أخرى ، و يتم تشخيص الحالة العصابية للمفحوص من خلال التركيز على الأعراض و المؤشرات الدالة على وجود الاضطراب ، حيث أن الأخصائي النفسي يتوصل إلى هذه الأعراض إما عن طريق الإنصات و الاستماع أو عن طريق التواصل بالكلام (اللغة) ، و من هنا تأتي ملاحظات الأخصائي التي يتوصل من خلالها إلى بعض المؤشرات التي تساهم في نجاح عملية التشخيص، و معرفة ما إذا كان هناك فعلا اضطراب نفسي عصابي أم لا.
- إن الأعراض التي يشخصها المعالج النفسي تكون دائمة و متكررة و غير منتظمة بمعنى أن دائمة ، أما إذا كانت عابرة ومؤقتة فهي ليست عرضا دالا ، وهذه المسألة جد مهمة على مستوى طريقة تشخيص الحالة العصابية للمفحوص.
- ميكانيزمات العصاب:
لتسليط الضوء على ميكانيزمات العصاب يمكن طرح السؤال التالي: ما هي الميكانيزمات الدفاعية التي يستعملها الشخص العصابي؟
- هناك ميكانيزمات دفاعية يستعملها الشخص العصابي و هي: ميكانيزم الكبت ، الإزاحة و تغيير المعنى، التحويل، العزل، الإلغاء، التكتل، التكوين المضاد .