قراءة في محاضرات في فلسفة الدين للفيلسوف جورج فيلهلم هيجل من إعداد الكاتب والباحث في علم النفس الإكلينيكي والمرضي المصطفى توفيق

 

الفيلسوف هيجل 
مصدر الصورة: غوغل 


تعد محاضرات هيجل في فلسفة الدين (التي ألقاها بين 1821 و1831) من أبرز المحاولات الفلسفية لفهم الدين من منظور عقلاني وجدلي. لم يتعامل هيجل مع الدين كموضوع إيماني خالص، بل اعتبره مرحلة ضرورية في تطور الوعي والروح، حيث تتجلى الفكرة المطلقة (الروح) في صورة دينية.


يرى هيجل أن الدين هو معرفة الإنسان بالله، أو بالأحرى معرفة الروح بذاتها في شكل موضوعي رمزي. أي أن الإنسان حين يعبد الإله، فهو في العمق يعكس صورة ذاته المتعالية، سعيا نحو المطلق.

"الدين هو وعي الروح بالمطلق في شكل تمثلي" – هيجل

وهذا المفهوم يفتح الباب أمام قراءة نفسية للدين، لأن العلاقة مع الله في فكر هيجل ليست فقط علاقة خارجية، بل حوار داخلي بين الذات وذاتها في صورتها الكاملة.

في كتابه فينومينولوجيا الروح، يقدم هيجل تصورا جدليا لمسار تطور الوعي، حيث يرى أن هذا الأخير يمر بعدة مراحل متراكبة تبدأ بـ الوعي الحسي، ثم تتطور إلى الإدراك، ومنه إلى العقل، وهي مراحل تمثل انتقال الذات من التعامل المباشر مع العالم إلى وعي أعمق بالمعنى والكلية. بعد ذلك، يدخل الوعي في مرحلة أعلى يسميها هيجل مرحلة الروح، وهي المرحلة التي تعبر عن نضج الوعي الإنساني، وتتشكل من ثلاث محطات أساسية: الدين، والفن، والفلسفة، باعتبارها أرقى تعبيرات الروح في سعيها لفهم ذاتها وتحقيق المطلق.

وفي محاضراته حول الدين، يعيد هذه الفكرة ويؤكد أن الدين ليس المرحلة العليا، بل الفلسفة، لأن الدين يدرك المطلق عن طريق الرمز والإيمان والشعور، بينما تدركه الفلسفة بالعقل.

رغم أن هيجل ليس عالم نفس بالمعنى الدقيق، إلا أن رؤيته للدين تنطوي على أبعاد نفسية عميقة تضفي على تحليله طابعا سيكولوجيا لافتا. فهو يرى أن الإنسان، في علاقته بالدين، يعيش نوعا من الاغتراب، إذ يسقط جوهره الذاتي على إله خارجي، بينما يكون في الواقع بصدد التعبير عن ذاته في صورة متعالية. غير أن هذا الاغتراب لا يبقى دائما، بل يمهد لمرحلة أرقى من التطور الروحي، حيث تتحقق المصالحة بين الذات وصورتها العليا في الدين المطلق، وهو ما يشبه، من منظور سيكولوجي، عملية "التحليل النفسي الروحي" التي تصل فيها الذات إلى وعي أعمق بذاتها. ويضاف إلى ذلك أن الدين، في جوهره، يجسد رغبة الإنسان في المطلق، أي توق الذات إلى الكمال وتحررها من محدوديتها، وهو ما يوازي من حيث البنية النفسية تلك الدوافع اللاواعية التي تحدث عنها علم النفس الحديث، خاصة عند مفكرين كفرويد ويونغ.

هيجل لا يقصي الدين، لكنه يرى أن دوره يكتمل حين يتحول إلى فلسفة.
فالدين يقدم الحقيقة في شكل تمثيلي، بينما تقدم الفلسفة نفس الحقيقة في شكل مفاهيمي.

هذه الرؤية دفعت لاحقا مفكرين مثل فويرباخ وماركس وفرويد إلى تطوير نقدهم للدين بوصفه إسقاطا نفسيا واجتماعيا، بناء على جذور هيغلية.


في الختام، تكشف محاضرات هيجل في فلسفة الدين عن تداخل عميق بين الفلسفة والروح وعلم النفس.
إنها ليست فقط تأملا في الأديان، بل محاولة لفهم الذات الإنسانية في سعيها إلى المطلق، وميلها الفطري لإسقاط ذاتها العليا في صور رمزية مقدسة.
إن قراءة هيجل تلهمنا بإعادة التفكير في الدين كحركة داخلية للروح، لا مجرد تقاليد خارجية.