نعلم جميعا أن الفرد لا يختار واقعه الاجتماعي، لأنه يولد في واقع محدد سلفًا يفلت من سيطرته بمؤسساته الاجتماعية وقواعده وقوانينه وعاداته ،أي بثقافته الخاصة.
إذا كان المجتمع يحترم كرامة الإنسان، فسوف يوفر له تنشئة إجتماعية تحميه من الحرمان، وتوفر له رعاية صحية، وتعليم يحترم إنسانيته، ويخلق فيه الإبداع والانتاجية، وخصوصا حرية الاختيار التي تميزه عن باقي الكائنات.
أما إذا كان المجتمع يعاني من التخلف والجهل، فسوف ينعكس عليه بحرمانه من جميع حقوقه، و تسلب منه إنسانيته، ويصبح مكبل الفكر، مشحون بأفكار الخضوع والخوف عبر تنشئته الاجتماعية.
وبما أن الإنسان يتميز بخصائص نفسية غريزية، مثل حب التملك والتدرج في الاكتمال، فهو يسعى طبيعيا إلى تحقيق حاجاته الفيزيولوجية من مأكل وجنس، التي بدونها لا يمكن الاستمرار في الحياة، وإذا وصلت هذه الأخيرة إلى حالة إشباع ينطلق إلى مرحلة أخرى، إلى البحث عن الأمن ثم إلى تكوين علاقات إجتماعية بكونه كائن إجتماعي بغية تحقيق ذاته.
ولتسهيل هذه المراحل يجب توفر واقع إجتماعي يسهل عليه الانتقال من مرحلة إلى أخرى إنطلاقا من رؤية سياسية تحترم وجوده وكرامته وإنسانيته.
أما بالنسبة للمجتمع الذي يسود فيه الجهل والتخلف وعدم إحترام كرامة الإنسان وإنسانيته، وذلك بسيطرة نخبة قليلة على ثروات المجتمع ونهج سياسة القمع والاستعباد، واعتبار الفرد داخل المجتمع مجرد وسيلة للإنتاج، وتسخير جميع مؤسسات الدولة لمصالحها الخاصة وحماية ممتلكاتها، وذلك بغرس قيم ومعتقدات عبر المؤسسات الاجتماعية خلال عملية التنشئة الاجتماعية بهدف إستيلاب نفسية الفرد وتجميد عقله وفقدانه حرية التفكير والاختيار،
أي أنها تمارس عنف مادي من خلال آلية الضبط الاجتماعي، وفي نفس الوقت عنف رمزي خلال وسائل الإعلام.
هذه التركيبة الاجتماعية والتراتبية المسيطر عليها من خلال رؤية استغلالية متراكمة عبر الزمن من طرف نخبة مسيطرة تنعكس على الفرد داخل المجتمع، بحيث يصبح أمام ضغط موضوعي يفرض عليه توفير حاجاته الأساسية وإكراه مؤسساتي يجبره على استلاب إنسانيته، حيث يصبح بدوره يدافع على قيم ومعتقدات التخلف، ونقلها للأجيال اللاحقة معتقدا أنها قيم صحيحة يعطيها مرتبة التقديس.
إن استلاب إنسانية الفرد داخل المجتمع المتخلف هي شعلة استمرار التخلف عبر الزمن، بحيث يصبح هو بدوره يقاوم أي تغيير يسعى إلى إنعتاقه من التخلف، وأي شخص خرج من قوقعة التفكير المتخلف فسوف يواجه الصراع من جهتين، جهة مستفيدة من التخلف والجهل بجميع آلياتها القمعية، وجهة أخرى مسيطر عليها تتخبط في الجهل والتخلف والعبودية، وتقاوم أي تغيير يعيد لها كرامتها وإنسانيتها، وسيكون مصير الداعي لهذه الحرية اما شيطان أو متمرد.
عندما تنعدم في المجتمع شروط النجاح بطرق شرعية وقانونية، يلجأ الفرد إلى أساليب ملتوية لتحقيق النجاح، حيث
أن الإنسان المقهور، رغم استلاب نفسيته ثقافيا، يبقى يمتلك غرائز حيوانية، التي يشترك فيها مع باقي الحيوانات، التي لا يمكن تحقيقها في المجتمع بشكل علني، فينتج عن ذلك كبت نفسي، وسلوكيات شاذة يمارسها في الخفاء، ويتحايل على القوانين والتشريعات، ولكن بشكل متستر خوفا من عملية الضبط الاجتماعي.
إن ازدواجية الثقافة المكتسبة والغرائز النفسية للفرد، ينتج عنهما تناقض في سلوكه العام، لأن هذه الثقافة عندما تشكلت لم تراعي الجانب الغرائزي للإنسان، بأنه يمتلك خاصية البحت عن المتعة والابتعاد عن الألم، بل كان هدفها الأساسي هو قمعه وكبح غرائزه لغاية عدم منافسة الفئة المسيطرة على ذلك.
إن التغيير في الدول التي تحترم مواطنيها، يكون بشكل مؤسساتي ومطالب المجتمع المدني والعمل النقابي يكون لها تأثير على توجه سياسة الدولة وخططها المستقبلية، وحتى الصحافة تدافع على المصلحة العامة، وليس فئة خاصة مما ينتج عنه مواطن فعال ومنتج في وطنه الذي يحدد فيه مكانة الفرد ودوره حسب كفاءته وليس بأرته التقافي.
أما بالنسبة للدول المتخلفة، فإن هدفها الأساسي هواستغلال مواطنيها وقهرهم، والاستيلاء على السلطة وتحديد دور ومكانة الفرد داخل هذا المجتمع ليس بكفائته، بل حسب فئته الاجتماعية، أي حسب ارته الثقافي مما ينتج عنه قهر الإنسان داخل هذا المجتمع، وتدمير طاقته من أجل تغيير وطنه للأحسن، ومن ثم نهج هذا الأخير مقاومة دفاعية استسلامية، إما عبر الخضوع لخطاب إيديولوجي وهمي أو التخضير، وفي كلتا الحالتين فالنتيجة واحدة تغييب عقله الواعي واستلاب إنسانيته، مما ينتج عن ذلك مشاكل إجتماعية متعددة كالاغتصاب والسرقة والتطرف والتمرد على الواقع بطرق عشوائية وغير مؤطرة.
إن الإنسان المقهور أمام التطور التكنولوجي والانفتاح على العالم بواسطة آليات التواصل الاجتماعي، أصبح يتخبط بين أفكاره المكتسبة من ثقافة مجتمعه الخاصة، و بين ثقافة مجتمعات أخرى ذات قيم و معايير مختلفة عنه، مما ينتج عنه الشعور بقيمة الحرية، ولكن بعدم فهم دورها في فلسفة الحياة، مما أعطى سلوكيات غالب عليها التقليد والتبعية بدون روح النقد والتحليل، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالحرية بناء إجتماعي وثقافي يكتسبها الفرد خلال مراحل حياته، وليس معطى عشوائي يكتسب عن طريق المحاكاة، فالحرية لها فلسفة قيم، و بدونها تبقى مجرد حبر على ورق.