في زمن أصبحت فيه العلاقات الأسرية تتأرجح بين التماسك والانفجار، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لرجل يطلب، بوضوح وبصوت وصورة، من عائلته عدم زيارته أو الاتصال به، مؤكدا ضرورة احترام "حدوده" وتركه يعيش حياته بعيدا عن أي تدخل.
فيديو قد يبدو للبعض صادما أو مستفزا، لكنه يطرح سؤالا نفسيا واجتماعيا عميقا:
ما الذي قد يدفع إنسانا إلى قطع الصلة مع أقرب الناس إليه؟
هل هو تعبير عن أنانية مفرطة؟ أم رد فعل متأخر على تراكمات من الألم والخذلان؟
وهل يمكن أن تتحول الأسرة، التي من المفترض أن تكون مصدر دعم وأمان، إلى بيئة سامة تدفع الفرد إلى طلب القطيعة كخيار وحيد للنجاة النفسية؟
من خلال هذا السلوك، نحاول تحليل هذا الموقف من منظور سيكولوجي، لفهم الدوافع النفسية العميقة وراء مثل هذه القرارات، وعلاقتها بمفهوم الحدود الشخصية، والكرامة، والصدمات الأسرية، دون إصدار أحكام مسبقة، بل بهدف فتح باب الفهم والنقاش.
أولا: على مستوى الشخصية والعواطف
1. حاجة قوية إلى الاستقلالية النفسية:
الرجل يظهر رغبة شديدة في الانفصال العاطفي عن أسرته، ما قد يعكس نمط شخصية تميل إلى الاستقلالية المفرطة (hyper-independence)، وربما ما يعرف في التحليل النفسي بـ"ميكانيزمات الانفصال الدفاعي"، أي محاولة حماية الذات من ألم عاطفي محتمل.
2. إحساس بالإرهاق العاطفي أو النفسي:
قد يكون الشخص قد مر بتجارب سابقة مع العائلة تسببت له في أذى نفسي أو ضغوط مستمرة، مما أدى إلى ما يعرف في علم النفس بـ"الحد النفسي" أو Setting Boundaries بشكل صارم، بهدف استعادة التوازن الداخلي.
3. علامات على اضطراب محتمل في المزاج أو الصدمة:
أسلوب التحدث الجازم واللجوء للتوثيق العلني قد يشير إلى وجود خلفية من الاكتئاب، اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، أو حتى غضب مكبوت تراكم مع الزمن.
ثانيا: من منظور العلاقات الأسرية
1. توتر مزمن في العلاقة الأسرية:
السلوك يعكس علاقة مضطربة بين الرجل وأسرته. يمكن أن يكون هناك تحكم مفرط، تدخل مستمر في قراراته، أو عدم احترام لخصوصيته، مما يدفعه إلى قطع التواصل كوسيلة للنجاة النفسية.
2. غياب التواصل الإيجابي والاحتواء:
إصدار هذا الطلب بهذه الطريقة قد يشير إلى أن محاولاته السابقة للتفاهم مع العائلة لم تؤخذ بجدية، مما دفعه إلى استخدام فيديو علني وسلطة الكلمة القاطعة.
ثالثا: من منظور الدينامية النفسية الداخلية
1. آلية دفاعية تعرف بـ"الانسحاب" (Withdrawal):
في نظر العديد من المدارس النفسية، الانسحاب من العلاقات المزعجة هو طريقة لحماية الذات من الأذى. وقد يكون هذا الرجل يعيش صراعا داخليا بين الحاجة إلى الحب والانتماء، والحاجة إلى الحماية من الألم.
2. سلوك احتجاجي أو نداء غير مباشر للمساعدة:
من جهة أخرى، قد يكون هذا السلوك شكلا من أشكال التعبير عن ألم داخلي عميق، وإعلان احتجاج على معاناة نفسية طويلة. أحيانا تكون الرسائل القاطعة وسيلة غير مباشرة للقول: "أنا أتألم، ولا أجد من يفهمني".
رابعا: من زاوية الصحة النفسية
من المهم ألا نتسرع في الحكم على مثل هذا التصرف، بل يجب التساؤل:
هل يعاني الرجل من ضغوط نفسية شديدة؟
هل سبق أن تعرض لإهمال أو إساءة من أسرته؟
هل يعاني من اضطراب نفسي (قلق شديد، اضطراب في العلاقات، اكتئاب مزمن)؟
إذا تكررت هذه الرسائل أو تضمنت مؤشرات على الانعزال المفرط، أو ميولا عدوانية أو إيذاء للذات، فقد يكون ذلك مؤشرا على الحاجة للتدخل النفسي العلاجي.
خاتمة تحليلية
ما قام به هذا الرجل يعد سلوكا استثنائيا في السياق الأسري الطبيعي، ويدل على معاناة نفسية أو صراع داخلي حاد. قد يكون تعبيرا عن احتياج نفسي لم يفهم، أو رد فعل متأخر على أذى طويل، أو مجرد محاولة لفرض حدوده بعد تجاهل متكرر.
من منظور سيكولوجي، لا بد من الإنصات إلى خلفيات هذا الموقف، بدل الحكم عليه. فكل سلوك يحمل وراءه قصة نفسية تستحق الفهم قبل التقييم.
أولا: من زاوية العلاج النفسي – ما الذي يكشفه هذا السلوك؟
1. حاجة مستعجلة لإعادة بناء "الذات الجريحة"
من خلال الفيديو، يبدو أن الرجل مر بتجربة نفسية عنيفة أو مستمرة جعلته يصل إلى نقطة الانفصال الجذري عن أسرته. في العلاج النفسي، نرى في مثل هذا التصرف مؤشرا على "ذات جريحة" تبحث عن السلام، وربما لم يعد يراها ممكنة في ظل العلاقات الحالية.
التدخل العلاجي في هذه الحالة يهدف إلى:
تمكين الشخص من التعبير الآمن عن ألمه دون صدام.
مساعدته على فهم مشاعره وحدوده وحدتها.
دعمه في تفكيك مشاعر الغضب أو الخذلان المتراكمة تجاه العائلة.
2. إمكانية وجود صدمات نفسية أسرية (trauma familiale):
الكثير من الأشخاص يقطعون صلتهم بأسرهم ليس بسبب قطيعة سطحية، بل لأنهم عاشوا ما يعرف بـ"الصدمة العائلية" (كالعنف، الإهمال، التحقير، الرفض، أو التحكم القهري). في هذه الحالات، يعتبر الانفصال شكلا من آليات النجاة النفسية.
في هذه الحالات، العلاج النفسي (خاصة عبر التحليل النفسي أو العلاج السلوكي المعرفي) يساعد الشخص على:
فهم أصل الجرح.
تمييز حقه في الحماية دون الشعور بالذنب.
بناء توازن داخلي بين القطيعة والمصالحة مع الذات.
ثانيا: من زاوية العلاقات الأسرية – عندما تصبح العلاقة سامة
1. مفهوم "العائلة السامة" (Toxic Family):
في بعض السياقات، تكون العائلة مصدرا للتوتر والضغط بدل أن تكون حاضنة. هذا يحدث عندما:
لا يحترم استقلال الفرد.
تمارس عليه وصاية أو انتقاد دائم.
يستعمل الحب كوسيلة للسيطرة أو الإذلال.
الرجل في الفيديو ربما بلغ مرحلة "التحرر العاطفي" من هذه البنية السامة.
2. غياب الحوار الأسري البناء:
عندما تفشل الأسرة في التواصل مع أفرادها الكبار، وتصر على التحكم بدل الإنصات، تتدهور العلاقة إلى حدّ اللاعودة. والقطيعة العلنية بالفيديو تعني أنه لم يجد طريقا آخر يفهمهم به، أو أنه فقد الأمل في التغيير.
في العلاج الأسري (Thérapie familiale)، نعمل على:
إعادة تأسيس الحوار.
توضيح الحدود الشخصية بين أفراد الأسرة.
التعافي الجماعي من الجروح غير المصرح بها.
خلاصة موسعة
توثيق طلب القطيعة بالفيديو ليس فقط صدمة للأسرة، بل مؤشر على نداء داخلي عميق:
"اتركوني أتنفس... فأنا لم أعد أحتمل العلاقة بهذه الطريقة."
من الناحية السيكولوجية، لا يمكن فصل هذا القرار عن خلفية الشخص وتاريخه الأسري، كما لا يمكن تفسيره فقط بأنه قسوة أو عدوان.
بل هو في الغالب شكل متأخر من المطالبة بالاحترام والكرامة والحدود.
ملاحظة ختامية
إن ما عبر عنه هذا الرجل، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، يفتح بابا مهما لنقاش عميق حول الصحة النفسية داخل الأسر، وأهمية احترام الحدود الشخصية، والوعي بالأثر الذي قد تتركه العلاقات غير السليمة في نفسية الفرد.
ولمن يرغب في الاطلاع على تصريحاته كما وردت، يمكنه مشاهدة الفيديو الكامل للحوار
الذي أُجري معه عبر الرابط التالي