في العشر سنوات الأخيرة استطاع المغرب أن يبني موقعا جيدا في المجال الإقليمي والقاري الذي ينتمي إليه، فنوع علاقاته التجارية على مستوى قاري وأبى أن يبقى حبيس الفضاء الأورومتوسطي في علاقاته التجارية، وعبر عن هذه الإرادة بقوة وهو يبني العلاقات الأورومتوسطية مع أوروبا في تسعينيات القرن الماضي وعبر عنها أكثر في بداية القرن عن طريق الشراكات الاقتصادية البينية مع الاتحاد الأوروبي شمالا وتعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية والتاريخية مع الدول الإفريقية جنوب الصحراء وتنويع هذه العلاقات عبر شراكات أخرى من آسيا وأمريكا. اقتنع المغرب بتمتين صرح القوة الداخلية أولا في إيلاء الأهمية الكبرى للجانب المؤسساتي والتشريعي فكان نموذجا يحتذى في بلدان شمال افريقيا والعالم العربي بعد الربيع العربي وثمة عمل المغرب على تعزيز المنظومة الاقتصادية الوطنية بإمكانيات ووسائل حديثة وفعالة وذكاء استراتيجي كبير كان أساسها تقوية المنظومة الصناعية المغربية وخلق الفرص الاستثمارية وتشجيع العلاقات التجارية التجارية، فعزز إمكاناته بالمعرفة التكنولوجية وربط العلاقات مع الشركاء من مختلف القارات وخصوصا أمريكا والصين وكوريا الجنوبية، بحث عن تنويع مصادر التكنولوجيا في الصناعات الحديثة وتمكن من تحقيق استقلالية اقتصادية بالتدريج وعالج جل الإشكالات التي كانت تعترضه في هذا المجال بحنكة ودراية ومعرفة كان من نتائجها تفوقه في مجال مقاومة الوباء والأزمات من حيث اصبح مثلا في بلدان الجنوب بل تفوق المغرب في تحويط الجائحة والوباء بحنكة منقطعة النظير وتفوق بذلك على كثير من البلدان المتقدمة في الغرب وعلى نفس المقاس قدم المغرب عروضا جيدة وغير مسبوقة في المجال الدبلوماسي فسجل انتصارات كبيرة في ملف الوحدة الترابية حيث استعاد مكانته في المنتدى الافريقي للقارة. من الناحية الاستراتيجية واللوجيستيكية قوى المغرب ترسانته العسكرية بشكل منظم وحديث ورفع من مستوى الأداء على كافة الأصعدة سياسية واقتصادية ودبلوماسية واصل جهوده في مجال التنمية المستدامة وتنزيل مقتضيات الجهة المتقدمة وتفعيل مبادرات التضامن الاجتماعي لتوفير التغطية الصحية والاجتماعية لسائر المواطنين وكل ذلك كان بمبادرات فردية وقوة وعزيمة وإمكانات ذاتية علما أن المغرب ليس دولة بترولية. لكن المغرب تعامل مع المقدرات المالية والموارد بذكاء ووعي وسجل سبقا فريدا في مجال التعامل المالي مع المؤسسات المالية الغربية، صار هو الرأسمال الثابت في العلاقة مع البنوك العالمية التي تسير على مستوى جيد يطبعها مناخ الثقة والاستمرارية.
حاز المغرب بذلك ثقة الشركاء واحترام كل الأطراف وأصبح يمارس دوره الإقليمي والقاري ويعبر عن قراراته السيادية بكل حرية واستقلالية مما أزعج الشركاء في أوروبا وخصوصا إسبانيا التي امتعضت من الخطوات التي قطعها المغرب باتجاه التطوير الاقتصادي والاستراتيجي من حيث صار قبلة للمستثمرين في مختلف القطاعات الصناعية الآسيوية والأمريكية. أما بالنسبة للجارة الجزائر فإن إشكالية العداء المزمن الذي طبع العلاقة مع المغرب وتتحكم فيه سيكولوجية النظام الحاكم بالجزائر من جهة وعجز هذا النظام العسكري عن مسايرة خط التطور الحداثي الذي باشره المغرب في مختلف المجالات منذ عقدين ونيف وحقق فيه درجة كبيرة من التقدم والنجاح، فكانت ردود الفعل من قبل الجزائر مشوبة بالعدائية التاريخية والكراهية الحاضرة في وجدان حكام الجزائر، عدائية غير مفهومة وغامضة وغير مبررة حيث تبنت الجزائر الاطروحة الانفصالية منذ أكثر من أربعين سنة لتبرير هذا العداء مع تناقض صريح في المواقف، لكون الجزائر تدعي الحيادية من قضية الصحراء، ولا تلبث أن تعبر بخطابات سياسية رسمية غاية في التسلط والكراهية.
مواقف الجزائر من المغرب تعدت أن تقتصر على الخطاب السياسي الرسمي الذي تبنته الجزائر تجاه المغرب، بل شمل أحيانا التدخل في الشؤون الداخلية للمغرب والمواقف والإرادة المغربية السيادية في بناء علاقات دبلوماسية مع أطراف أخرى قد لا ترضي الجزائر خصوصا قضية التطبيع المغربي الاسرائيل الذي عارضته الجزائر بشدة و صعدت من لهجتها مع المغرب في غضون الأشهر الأولى من السنة الماضية قبل ان تتطور هذه العلاقة المفككة أصلا الى قطيعة.
فيما يتعلق بالعلاقات الإسرائيلية المغربية وما تثيره من جدل سواء مع الجزائر أو مع غيرها من الدول العربية، فهي ليست وليدة اليوم، فقد تم ربطها في السابق على مستوى عادي منذ سنة 1993، بعد توقيع اتفاقية "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وتل أبيب.وعادت هذه العلاقة الى حيز الوجود بعد أن تم توقيفها في سنة 2002 بعد زيارة وفد إسرائيل الى المغرب في 28 ديسمبر الماضي، حيث شرع المغرب في إجراء مباحثات مع إسرائيل قصد التعاون في مجالات اقتصادية شملت خمس قطاعات صناعية؛ هي قطاع النسيج، وقطاع الصناعات الغذائية، وقطاع البحث التطبيقي في الصناعة، والتكنولوجيات الخضراء، وصناعة الطاقات المتجددة. وهي مجالات كلها جديدة بالنسبة للمنظومة الصناعية في المغرب وتوفر قاعدة معلومات ضخمة لبناء اقتصاد متطور وحداثي قد لا يجد المغرب فرصة مماثلة لدى دول الشراكة الاقتصادية التي تتحفظ على تحويل التكنولوجيا الصناعية الذكية الى بلدان أخرى وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. هذه القطاعات الصناعية المتطورة ستوفر أيضا سوقا للشغل تسهم في التخفيف من حدة البطالة التي تشكو منها الحكومة.
وفي 23 مارس الماضي، وقع المغرب وإسرائيل اتفاقية شراكة استراتيجية، لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية. وخصوصا القطاع السياحي حيث يعلق المغرب أهمية خاصة على هذا القطاع ويعتبر زيارة المغاربة الإسرائيليين الى المغرب، دفعة قوية للسياحة المغربية علما أن للمغرب جالية تتكون من حوالي مليون مواطن إسرائيلي من أصول مغربية يتوافدون على الوطن الأم.
إذا نظرنا الى مضمون الاتفاقيات الموقعة خلال سنة تقريبا نجد أنها اتفاقيات اقتصادية صرفة وأن المغرب لم يهتم بالقضايا الاستراتيجية في العلاقة مع إسرائيل إلا مؤخرا حيث ابرم عدة اتفاقيات تهم الصناعة العسكرية والتكنولوجية المتقدمة للطيران الحربي. زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي مؤخرا جاءت بعد إعلان الجزائر قطع العلاقات مع المغرب واعتبار الأجواء الجزائرية محرمة على الطيران المغربي. علاوة على قرار الجزائر بعدم تجديد عقد استغلال خط أنابيب الغاز الذي يزود أوروبا بالغاز الجزائري مرورا بالمغرب. وبرر بيان رئاسة الجمهورية الجزائرية عدم التجديد بما سماها ب "الممارسات ذات الطابع العدواني" للمغرب. وعلى إثر ذلك قطعت الجزائر العلاقات الدبلوماسية مع المغرب ورفعت من لهجتها التهديدية بالحرب الى درجة أعلنت فيها الرئاسة الجزائرية اليوم (28/11/2021) قرار الاجتماع الطارئ لمجلس الامن الجزائري ويعتبر هذا الإجراء بمثابة اعلان حرب على المغرب. ويأتي قرار إدارة بادين الذي أعلنت عنه الخارجية الامريكية في 26/11/2021 القاضي بالاعتراف الكامل بمغربية الصحراء ليعزز الاتفاق الذي أبرمته الولايات المتحدة مع المغرب في ديسمبر 2020، تعترف بموجبه واشنطن بسيادة المغرب على صحرائه، لتدخل بذلك الجزائر في عزلة سياسية ودبلوماسية اثارت حفيظتها ويكون رد فعلها هو الخطاب السياسي العدواني المتشنج الذي تنتجه قنوات الإعلام الجزائرية وتتبناه الجهات الرسمية على أعلى مستوى وقرارات مجالس الحرب التي تعقدها من حين الى آخر.
قد يبدو من السابق لأوانه التكهن بأي إجراء يخص العلاقة المتوترة بين الجارتين الشقيقتين فيما يتعلق بشن هجوم عسكري او افتعال حرب خاطفة او نزال ميداني كيفما كان نوعه، فهذا السيناريو مستبعد الحدوث وغير واقعي ولكن في حالة إقدام الجزائر على هجوم عسكري من أي نوع على المغرب، فإن هذا بدون شك سيدخل المنطقة في نفق مظلم وغير آمن لمدة طويلة وقد تؤدي الجزائر ثمن ذلك غاليا كما تشير الكثير من التوقعات والتحليلات الاستراتيجية لما قد يقع مستقبلا في منطقة شمال افريقيا وما سيلحق بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بمجموع الفضاء الأورومتوسطي الذي يعتبر الى حد الآن منطقة آمنة وتسعى الى تطور متنامي لقدراتها الاقتصادية والتنموية ومستقبل شعوبها.
القوة الكبرى المتصارعة المتحالفة اقتصاديا التي تقود المنطقة وهي الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، لن تسمح بوقوع كارثة من شأنها إشعال المنطقة عسكريا وإحباط الطموح القاري والإقليمي والدولي الى بناء مجتمعات مسالمة و منتجة اقتصاديا ومتضامنة اجتماعيا في وجه الأزمات والتحديات التي تطرحها المتغيرات الصحية والاجتماعية وملابساتها وتداعياتها.
قرار المغرب في اعتبار الحل الوحيد والممكن والمنطقي هو الحكم الذاتي، قرار اكتسى الصبغة القانونية والدبلوماسية باعتراف عشرات الدول في العالم وتبنيه من جل الدول الإفريقية التي فتحت قنصليات في الصحراء المغربية بالعيون والداخلة يعتبر قرارا دوليا مستفتى في شأنه بخصوص مغربية الصحراء وقد تم الفصل في قضية النزاع حول الإقليم الجنوبي للمملكة بدعوة جلالة الملك في خطابه الأخير الى اعتبار" الحكم الذاتي هو أقصى ما يمكن تقديمه كحل للنزاع في المنطقة".
الأسئلة الأخرى من قبيل:
هل تتجه الجزائر والمغرب إلى مواجهة عسكرية؟
من يتحمل مسؤولية التصعيد بين البلدين؟
لماذا تصر الجزائر على دعم جبهة البوليساريو؟
فسوف نترك تناولها في حلقات أخرى مقبلة ان شاء الله